لحظـــه تاريخيـــة نـــادرة

القـــاهــــرة عاصمــــة للثقـافــــة والفنـــــون
د / خـالـد البغــــدادى


( القاهرة ليست مجرد مدينة ... إنها دولة على شكل مدينة .!)

لعل هذا التعبير الذى قاله وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى – نقلا عن أحد المؤرخين الغربيين – يكون هو أصدق تعبير لوصف حالة مدينة القاهرة الآن ،  وهو توصيف صحيح لواقع مزعج  ، لأن ما يسمى حاليا  ( القاهرة الكبرى ) هى عبارة عن مجموعة مدن كانت منفصلة عن بعضها ذات يوم لكنها إلتحمت مع بعضها بسبب زيادة السكان والتمدد العمرانى .. مثل :

-        مدينة مصر الجديدة التى بناها البارون إمبان فى بداية القرن العشرين لتكون مدينة أوربية الطراز.

-        ومدينة حلوان التى كانت الواحة العلاجية لسكان القاهرة بسبب نقاء جوها وعيون الماء الكبريتية التى تنبع فيها .

-        ومدينة نصر التى كان ينظر لها على أنها صحراء بعيده .. أقرب للسويس منها للقاهرة.

-        ثم مدينة شبرا الخيمه التى كانت تعتبر المدينة الصناعية .

-        ومدينة إمبابة التى كان ينظر لها على أنها مدينة العمـال .

-        وأيضا مدينة المهندسين التى كانت أراضى زراعيه .…الخ

   فضلا عن بعض المدن التاريخية مثل مدينة الفسطاط التى بناها عمرو بن العاص .. ومدينة القطائع الى بناها أحمد بن طولون .. وغيرها من المدن ، كل هذه ( التشبيكة ) العجيبة جعلت من القاهرة أقرب الى الأخطبوط الذى له رأس واحدة وأزرع متعددة تتمدد فى جميع الإتجاهات .. من طريق السويس الى طريق الفيوم .. ومن الطريق الزراعى الى الطريق الصحراوى .. ومن شبرا الى حلوان ..!!

وهنا تأتى أهمية المبادرة التاريخية الجريئة التى طرحتها القيادة السياسية فى مؤتمر شرم الشيخ بالإعلان عن بناء العاصمة السياسية والإدارية الجديدة ، والحقيقة أن هذا القرار الجرىء ليس بدعة فقد إتخذته دولا كثيرة قبلنا عندما ساءت أحوال عاصمتها ، مثل دولة نجيريا التى غيرت العاصمة من مدينة (لاجوس ) .
الى مدينة  ( أبوجا ) .. ودولة البرازيل التى غيرت العاصمة القديمة (ريو دى جانيرو ) .
وبنيت عاصمتها الجديدة  مدينة ( برازيليا ) .

 وكنا من أوائل الذين تحدثوا فى هذا الموضوع وطرحه للنقاش العام منذ سنوات عديدة ، حيث نشرنا فى جريدة القاهرة الغراء فى تاريخ 30 أكتوبر 2007 مقالا بعنوان ( كيف نحول القاهرة عاصمة للثقافة ) ثم أعدنا طرح الموضوع للنقاش مرة أخرى فى مجلة ( الخيال ) عدد ديسمبر 2010 وحمل المقال عنوان ( السؤال الذى يخشاه الجميع .. القاهرة عاصمة ثقافية ..)


درة الشرق......

والآن بعد أن قدمت القيادة السياسية هذه المبادرة الجريئة والشجاعة فى طرح مشروع عاصمة سياسية وإدارية جديدة لمصر .. مما ينم على وعى وإدراك للحراك الإجتماعى والسياسى الذى يحدث لهذه المدينة .. وأنها لم تعد تحتمل الإستمرار بهذا الشكل  .

والكرة الآن فى ملعب الفنانين والمثقفين أن يتوافق الجميع وبالتعاون مع وزارة الثقافة فى تقديم رؤية وتصور عصرى متطور لتحويل القاهرة لتكون عاصمة للثقافة والفنون والتراث والتاريخ والآثار .. ولتحويل المبانى الحكومية التى ستتركها الوزارات والمؤسسات الحكومية لتكون منارات للإشعاع الثقافى والفنى .. كما فعلت العديد من دول العالم .. حتى بعض الدول العربية/ حيث يتحول مبنى معين الى مركز للموسيقى .. وآخر للمعارض والفنون التشكيلية .. وثالث للشعر والآداب .. ورابع للتراث والحرف التقليدية .. الخ

فمصر لديها كنوز تراثية وحضارية هائلة وغير موجودة فى أى مكان فى العالم ولكن ينقصها فكر متطور للتسويق وإلقاء الضوء عليها وعلى أهميتها التاريخية خصوصا وان لدينا تراث عريق .. قديم وحديث .. فرعونى / قبطى / إسلامى / معاصر ، للتحول القاهرة فعلا الى مدينة للنور والضوء .. مدينة للتسامح والتعايش لتكون فعلا درة الشرق

حيث تتعايش وتتجاور وأحيانا تتداخل الأزمنة والأمكنة.. فعندما تسير فى شوارع القاهرة مسافة ألف متر .. فأنت خلالها تعبر مسافة ألف عام أيضا .. ولعل شارع المعز لدين الله الفاطمى هو نموذج حى على ذلك ونموذج حى على إمكانية تنفيذ هذه التجربة بنجاح .!

 لقد  حان  الوقت فعلا للبحث عن مدينة  أخرى  تكون العاصمة    ( السياسية ) لمصر وأن تبقى القاهرة هى العاصمة ( الثقافية ) بما لها من عمق تاريخى وبعد حضارى وعبق ثقافى وفنى وما تحتويه من أثار ومتاحف وقاعات عرض ، إنها دعوة لفنانى ومثقفى مصر للدفاع عن مدينتهم العظيمة ضد موجات القبح والملل والرتابة ، وضرورة تفريغها من الوزارات والمصالح الحكومية العتيدة التى حولت المدينة الساحرة الى ثكنة عسكرية …!! ويتركوها لنا نملئها من جديد بالإحتفالات والمهرجانات والعروض والكرنفالات والموسيقى والشعر والندوات والفنون .. لتصبح كما نريدها جميعا مدينة للنور والفرح والضوء .. بدلا من أن تصبح مدينة للضوضاء والتلوث ..!!؟؟

مدينة الألف عام

إن قاهرة المعز التى بنيت منذ ألف عام وتحتوى على ألف مئذنة أعيد تخطيطها مجددا فى القرن التاسع عشر على يد الخديوى إسماعيل الذى كان يحلم بها بأن تكون قطعة من أوربا .. أو باريس الشرق كما كان يردد دائما ، لدرجة انه أحضر المهندس الذى خطط مدينة باريس ليخطط مدينة القاهرة ..!!

وكان كل حلمه وحلم من خطط لهذه المدينة هو أن يسكنها نصف مليون نسمه ..!! وقد خططت الشوارع والمساكن والمرافق كلها لإستيعاب هذا العدد ، ولم يكن يخطر ببال المهندس الذى خططها مهما جمح خياله أن مدينته الذى خططها لإستيعاب نصف مليون نسمه أصبح يستوطنها الآن ما يقرب من  30 مليون ( بنى آدم ) بناءا على الأرقام التى نشرتها جريدة الأهرام ..!؟

 كل هذه الزيادة السكانية الغير طبيعية أثرت بالضرورة على كل خدمات ومرافق هذه المدينة وبدأ الغبار والتلوث والقبح يتسلل إليها يوما بعد يوم للدرجة التى دفعت الكاتب الكبير أنيس منصور الى وصفها بأنها أصبحت مثل   ( العجوز الشمطاء ) التى لم تعد تجدى معها أى عمليات تجميل ، كل هذا إنعكس بالضرورة أيضا على سلوكيات وأخلاقيات البشر الذين يعيشون فى هذا الجو ويعانون هذه الضغوط يوميا ، مما أثر بالسلب على طبائعهم وطريقة تفكيرهم ، وفقدت الشخصية المصرية هويتها التى كنا نتباها بها فى يوم  من الأيام.

 وقد حذر الأديب الكبير يوسف إدريس فى الثمانينات والتسعينات مما كان يسميه ( أخلاقيات الزحمة ) واضعا يده على السلبيات والسلوكيات السيئة التى تسللت الى وعى الروح المصرية نتيجة الزحام والضيق وضغوط الحياة .

 لقد إحتلت القاهرة المركز الأول كأعلى المناطق كثافة سكانية فى العالم خصوصا فى مربع وسط البلد ، وقد أوضحت أحدث الدراسات التى نشرت مؤخرا أن سرعة السيارات فى مدينة القاهرة سنة  2020 لن تتجاوز خمسة كيلو فى الساعة .. أى  بمعنى  آخر سوف  تتوقف  الحركة  والحياة  تقريبا ..!؟

والحقيقة أن هذا القرار الجرىء هو البداية الحقيقية للبحث عن إجابات وحلول لمشاكل مدينة القاهرة التى أصبحت تستعصى على الحل ، لقد لجأت الدولة الى حلول( توفيقية ) وأحيانا حلول( تلفيقية ) كثيرة فى محاوله منها لإصلاح ما يمكن إصلاحه .. لكن كل هذا لم يحل المشكلة وكان مجرد مسكنات عالجت ( العرض ) ولم تعالج  ( المرض ) وقد آن الآوان لإتخاذ القرارات المؤلمة وقد حاولت حكومات كثيرة ومتعاقبة أن تجد حلول لمشاكل العاصمة ، لكنها جميعا كانت مجرد ( مسكنات ) عالجت قشور المشكلة ولم تعالج جذورها حتى أصبح من المستحيل حل هذه المشاكل – فالكبارى أصبحت ثلاث أدوار والمترو ثلاث طوابق تحت الأرض – ولم يعد هناك إلا الحل الوحيد والذى يجب أن نفكر فيه اليوم قبل الغد وقبل حدوث الإنفجار الذى يخشاه الجميع ، وهو ضرورة التفكير الجدى فى نقل العاصمة المصرية خارج القاهرة وبناء مدينة جديدة عصرية ومتطورة تراعى فيها أحدث نظريات المستقبل فى تخطيط المدن .. مدينة صحية ونقية وخالية من التلوث والغبار .. تبنى على شواطىء أو صحراء مصر الممتدة على مرمى البصر ..!

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Fox Egypt News Magazine 2014 © جميع الحقوق محفوظة © تصميم الموقع : مجدي البروفسير