جـــــاهــــدوهــــــم بالتحــــدي والأمــــــــل

بقلم الشيخ / أحمد تركي   


منذ عدة أيام وأنا أنتوي الكتابة عن الوطن وآلامه وألامي لآلامه ، قضيت الساعات الطوال مفكراً ومتألماً  للحوادث التي راح ضحيتها الكثير ، والأزمات التي بيت لنا أعداؤنا بليل  لإيقاعنا فيها ، والخوف الذي أراه في وجوه المصريين علي وطنهم ومستقبل أولادهم ، وما يُسمون أنفسهم بالنخبة من الإعلاميين الذين وظفو منابرهم الإعلامية لتيأيس الناس وتصوير حاضر مصر ومستقبلها علي أنه أسودٌ كالليل البهيم الذي لا صبح لــــــه!

وتذكرت موقفاً في غاية العجب لرجل عجوز من العباسية يُدعي "عــــم سعـــد" ، وكان يأتي دوماً إلي مسجد النور وقت أن كنت  إماماً له ليأخذ إعانة بسيطة تعينه علي متطلبات علاجه وحياته .

أتاني عم سعد في شتاء العام الماضي في مكتبي بديوان عام وزارة الأوقاف يلتحف بطانية قديمة تحميه من البرد علي جلابيته الصيفية يسألني عن مدي احتمالية الإعانة التي كان يتقاضاها شهرياً من مسجد النور !

قمت إليه مقبلاً رأسه ويدي تحتال لتضع بعض المال في جيبه !! ، فإذا بي أري صورة الرئيس السيسي علقها علي صدره تحت البطانية !!

قال لي : يا ولدي أنا لا أريد منك أنت شيئاً ، وأنا هصبر لحد البلد ما تقف علي رجليها!! الخير جاي .. والله يابني باذن الله الخير جاااااي!!!.

حبست دموعي متأثراً بحاله وكلامه،  وسألته مازحاً لماذا تضع صورة الرئيس علي صدرك؟ قال لي : الريس يابني وضع روحه علي كفه علشان مصيرنا ميكونش زي سوريا وليبيا!! .

وجلست أقارن بين أنموذجين من المصريين ، مصري تشبع من خيرات مصر بحق وبغير حق وأصبح يعيش أرقي الأحياء فيها بعدما كان صعلوكاً لا وزن له يبشر بالخراب المستعجل وينشر ثقافة اليأس والتشاؤم والخوف والفوضي عبر منبره الاعلامي الذي يتقاضي منه عشرات الملايين سنوياً!!

وبين عم سعد وأمثاله ، ربما لا يجدون دواءهم واحتياجاتهم ، يقاومون الأزمات بالتحدي والأمل ( يابني الخير جااااااي بإذن الله) .

فارق كبير بين الأنموذجين!!

الأنموذج الأول : يحمل القيم الزائفه وهو يتحدث عن الوطنية واصلاح البلد ، لأن اصلاح البلد لا يمكن أن يكون بنشر الإحباط مع سبق الإصرار ، ولم أعلم وطناً بُني بالإحباط عبر التاريخ! ،  بالعكس!!

الأوطان تُبني بالأمل والعمل والإخلاص ، ولنتذكر المسلمين الأوائل ورسول الله (صلي الله عليه وسلم ) بينهم ، وهم يعيشون أزمة حصار المدينة في غزوة الخندق ..

لماذا قدر الله تعالى على المسلمين الأوائل ورسول الله بينهم .. وهم ما طلبوا إلا الأخرة ، وما طلبوا من الناس أجراً من وراء دعوتهم ، ولم يُريدوا لأنفسِهم وللناس إلا الحياة الصالحة ، لم يُريدوا الموت لأحدٍ ، ولم يُريدوا أن يُقيموا دولتهم أو وطنهم على أنقاض أوطان غيرهم .!!

لماذا قدر الله على الصحابة رضوان الله عليهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيشوا مشهد الأحزاب ؟،
الذي صَوَّره القرآن الكريم بقول الله تعالى : (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا )[الأحزاب/10، 11].
لقد حَاصَر أجلافُ العرب والعجم المسلمين مراتٍ عديدة حتى خَشِيّ الناسُ أن يذهبوا لقضاء حاجتهم ويتركوا وطنهم وأعراضهم وأموالهم دون حماية  !!

الإجابةُ على هذا السؤال المهم تأتي ضمن ما ذكرهُ القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات مظهراً مقصودَ هذه المواقف التي يُحاصَرُ بها الأوطان أحياناً !!

قال تعالى : (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... ) [الأنفال/37].

وقال تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )[البقرة/214] .

إن شعور المسلم بالتألم لقرحٍ يصيبه في جسده أو في أولاده (هذا طبيعي) وقد يشغله عن قضايا أمته ، الهم في السعي علي الرزق ، أو في مشاكله الخاصة .

فلا بد من هذه الابتلاءات حتى يتحول المسلم من الشعور بألمه الخاص بنفسه وأولاده إلى الشعور بآلام أمته وقضاياها وتحدياتها ، وعندئذ يشعر أن مشكلاته الخاصة هينة وبسيطة وقضاؤها يسير .

وكأن حسه ينتقل من جسده إلي حدود وطنه !!

فيفرح ويحزن ويضحي لأجله حتي يأتي النصر في وعلي كل المستويات العسكرية والاجتماعية والسياسية .
هذا الشعور عاشه الصحابة وهم حول نبيهم ، يحفرون الخندق والحجارة علي بطونهم جوعي ، يتحدون الأحزاب بالعلم والعمل والتدبير والتخطيط ، ( وهذا ما سميته بجهاد التحدي واخترته عنواناً لهذا المقال ) .

وعندما جاء سيدنا جابر بن عبد الله إلي رسول الله ( صلي الله عليه وسلم) بقليل من الطعام ليطعمه دون بقية الناس ! نادي رسول الله علي أهل الخندق جميعاً وعددهم ثلاثة آلاف وأكل الجميع وشبعو بالقليل !! يقسم جابر أن ثلاثة آلاف أكلو وشبعو ولا زالت القسعة تغط بالطعام !!

وعندما اعترضتهم صخرة عظيمة وعجزوا عنها ، شكو الي رسول الله الذي ضرها بالمعول ثلاثاً وهو يقول الله أكبر كنوز كسري ، الله أكبر كنوز قيصر ، ( يبشر الناس بالنصروهم يُزلزلون زلزالاً شديدا ).

وبالطبع انفك عن المسلمين أناس كثر ، بمنطق وفلسفة أهل التبشير بالخراب في عصرنا ( الواقع اسود والمستقبل أسود) !!.

قال تعالي :  (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ ۚ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) :الأحزاب.

ومن مقاصد هذه الابتلاءات بالطبع أن ينفك هذا الأنموذج عن القافلة لأنهم كما ذكر القرآن ( لو خرجو فيكم ما زادوكم إلا خبالا). (خبالاً يعني  شرّا و فسادا ، أو عجزا و جُبنا  ).

وبالتالي أنموذج "عم سعد" من المصريين أغنياء أم فقراء ، شباب أم شيوخ ، رجال أم نساء ، هو من يمثل القيم الفاضلة الأصيلة التي تُبني الأوطان بها ، انهم يتمثلون تعاليم القرآن وقت الأزمات .

( مجاهدة المؤامرات بالتحدي ، والفقر بالصبر والعمل والايمان ، حصار الوطن بالتضحية بالجهد والمال والنفس ، والجهل بالعلم ، اليأس بالأمل ).

وأخيراً أقول لك أيها المصري : لا تخش علي مصر من الضياع ، لأن مصر ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم خمس مرات تصريحاً ، وأكثر من ثلاثين مرة تلميحاً .

أتعرف ماذا يعني هذا ؟

هذا يعني أن الله خلق هذا البلد ليعيش إلي يوم القيامة !! ، فلا يمكن أن يأتي اليوم الذي يقرأ الناس القرآن ومصر في خبر كان ؟!!! ، وإلا سيكون هذا تكذيب للقرآن.

فما ذكره الله في القرآن من أوطان ستبقي مادام القرآن باقٍ ، ( مكة ومصر) .

وليكن هذا هو موضوع المقال التالي باذن الله ( القرآن باقٍ!!! فمصر باقية ).

ولتنتفض من الآن !! بجهاد التحدي والأمل .


                                                              

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Fox Egypt News Magazine 2014 © جميع الحقوق محفوظة © تصميم الموقع : مجدي البروفسير