الشهيد الباشا نوري السعيد ودوره في
تأسيس الدولة العراقية الحديثة
كتب / سركوت كمال علي
كوردستان – العراق 


نوري باشا السعيد (1888 - 1958)، سياسي عراقي شغل منصب رئاسة الوزراء في المملكة العراقية 14 مرة بدآ من وزارة 23 مارس 1930 إلى وزارة 1 مايو 1958. كان نوري السعيد ولم يزل شخصية سياسية كَثُر الجدل و الآراء المتضاربة عنه. اضطر إلى الهروب مرتين من العراق بسبب انقلابات حيكت ضده. ولد في بغداد وتخرج من الأكاديمية العسكرية التركية في إسطنبول، خدم في الجيش العثماني وساهم في الثورة العربية وانضم إلى الأمير فيصل في سوريا، وبعد فشل تأسيس مملكة الأمير فيصل في سوريا على يد الجيش الفرنسي، عاد إلى العراق وساهم في تأسيس المملكة العراقية والجيش العراقي.

هو نوري بن سـعيد بن صالح ابن الملا طه القرغولي ، ولد ببغداد سنة 1888م، من عائلة من الطبقة الوسطى ،حيث كان والده يعمل مدققاً في إحدى الدوائر في العهد العثماني وتعلم في مدارسها العسكرية. وتخرج بالمدرسة الحربية في الآستانة (1906) ودخل مدرسة أركان الحرب فيها (1911) وحضر حرب البلقان (1912-1913) وشارك في اعتناق « الفكرة العربية» أيام ظهورها في العاصمة العثمانية عسكري وسياسي من قادة العراق ومن أساطين السياسة العراقية والعربية وعرابها إبان الحكم الملكي، وزير ورئيس وزراء لفترات متعددة ساهم بتأسيس عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية التي كان يطمح بترأُسِهَا، كانت له ميول نحو مهادنة بريطانيا على الرغم من حسه الوطني العالي. بدأ حياته ضابطا في الجيش العثماني وشارك بمعارك القرم شمال البحر الأسود بين الجيش العثماني والجيش الروسي وبعد خسارة العثمانيين عاد لوحده من القرم إلى العراق، قاطعا مسافات كبير ما بين سيرا على الأقدام أو على الدواب. انتمى إلى الجمعيات السرية المنادية باستقلال العراق والعرب عن الدولة العثمانية ثم شارك في الثورة العربية الكبرى مع الشريف حسن بن علي، يشير عبد الوهاب بيك النعيمي في مراسلات تأسيس العراق بأنه قد اختير لعضوية المجلس التأسيسي للعراق عام 1920 من قبل الحكومة البريطانية في العراق برئاسة المندوب السامي السير بيرسي كوكس حيث تشير المراسلات بأنه كتبت المس بيل بعد أول لقاء لها مع نوري سعيد: " إننا نقف وجهاً لوجه أمام قوة جبارة ومرنة في آن واحد، ينبغي علينا نحن البريطانيون إما أن نعمل يداً بيد معها أو نشتبك وإيّاها في صراع عنيف يصعب إحراز النصر فيه" وفي اعتقاد السفير البريطاني في بغداد بيترسون بان، نوري باشا ظلّ لغزاً كبيراً، لأنه بات بعد العام 1927 وتحديدا بعد انتحار رئيس الوزراء عبد المحسن بيك السعدون أصبح نوري السعيد صعب الإقناع في بلد لم يتعود الإذعان لرجل أو الخضوع لسلطة ونوري كان يريد بناء العراق رغم كل الدعايات ضده من الحكومات والشعب.


درس في المدرسة الاعدادية العسكرية في إسطنبول كان نوري السعيد دبلوماسيا من الطراز الأول يتحدث الإنجليزية بطلاقة، كان يبدو في مظهره جاداً وحازماً بل وقاسياً عند الضرورة، حاد الطبع، عصبي المزاج، سريع الغضب، الصفات التي لازمته طيلة حياته السياسية، حتى قيل عنه أنه كثيراً ما كان يشترك في المشاجرات والمشاحنات، لكنه إذا ما أراد الوصول إلى غاية ما أو تكريس سياسة ما، فإنه لا يثور ولا يتأثر، بل يتحمل النقد اللاذع من خصومه ويتعمد الغموض في أحاديثه ويوحي لمخاطبيه عن قصد بإشارات متناقضة أو تنطوي على تفسيرات متعددة، وبالفعل، كان نوري مناوراً بصورة فريدة، يعرف كيف يستغل الظروف والمتغيرات ويكرّسها لخدمة أهدافه. كان ميكافيلياً بالفطرة، يؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، فكان يجيد اختيار ساعته ويعرف كيف يقتنص الفرص الثمينة لتقوية أوراقه الرابحة له مبدأ خاص في الحكم عرف به وهو مبدأ "خذ وطالب".

تولى نوري السعيد منصب رئاسة الوزراء في العراق 14 مرة:

23 مارس 1930 - 19 أكتوبر 1932.
20 أكتوبر 1932 - 27 أكتوبر 1932.
25 ديسمبر 1938 - 6 أبريـــل 1939.
7 أبريـــل 1939 - 21 فـبرايــر 1940.
22 فبراير 1940 - 21 مــارس 1940.
9 أكتوبــر 1941 - 8 أكـتوبــــر 1942.
9 أكتــوبر 1942 - 25 ديسمـبر 1943.
26 ديسمبـر 1943 - 3 يـونيـــو 1944.
21 نوفمبر 1946 - 11 مــارس 1947.
6 ينـــاير   1949 - 10 ديسمبر 1949.
15 سبتمبر 1950 - 10 يوليـــو 1952.
2 أغسطس 1954 - 17 ديسمبر 1955.
18 ديسمبر 1955 - 8 يونـــيو  1957.
3 مارس    1958 - 13 مايــــو 1958.

عُرف عن نوري سعيد تعلقه وحبه للقب (الباشا) مذ كان طالبا بالكلية الحربية بالأستانة...كما عُرِفَ عن الباشا تعلقه بكل ماهو بغدادي وعراقي أصيل.


فالباشا إشتهر بعشق الاكلات البغدادية الأصيلة،  حُبّاً جَمّاً  فكان يحب الدولمة والشيخ محشي والتشريب والباجة والتمن والباميا، وكان يطلب أحياناً أن تنقل إليه حيث يكون. ... وكان يعرف ما تمتاز به بيوت أصدقائه وخصومه السياسيين، مِن أكلات بغدادية، لذا كان لا يتردد أحياناً عن أخبارهم بقدومه لتناول الغداء عندهم.
كما كان يُحِب تناول الخبز العراقي حاراً مِن تنور أحد جيرانه البُسطاء دون مَحاذير أمنية.

كان يُحِب تناول الطعام على الطريقة البغدادية، بدون تكلّف، مُرتدياً دشداشة وبيَده وبدون مَلاعق أو شوكات.
إعتاد سَماعَ الموسيقى والأغاني التي يحبها عِبر الراديو مِن إذاعة العراق التي كانت تنقل حفلات نجوم الغناء العراقي كزهور حسين وعفيفة اسكندر وسليمة باشا والقبانجي وناظم الغزالي. أما بَيت الباشا فقد كان كأيّ بيت بغدادي بسيط بعيد عَن الزخارف والنقوش والأبهة، وإذا عاد الى البيت كان يلبس الدشداشة أو البيجاما والنعال ويُشغل نفسه بالأمور البيتية كتصليح الراديو أو رَش الحديقة أو مداعبة أحفاده أو رعاية الحيوانات التي كان يقتنيها مِن طيور وقطط وكلاب وقردة (يقول الأستاذ مصطفى القرةداغي: أن غوغاء الثوار نفذوا فيها جميعاً أحكام الأعدام يوم 14 تموز لميولها الأستعمارية ربما!!!).

كما عُرف عن الباشا أيضاً حُبّه للمفاجئات، فقد كان يذهب أيام الصيف لمَكتبه مُرتدياً بنطلوناً قصيراً وقميصاً، وقد يدخل فجأة الى مَجالس خصومه مِن الساسة فيضفي عليها روحاً مَرحة بنكاته الساخِرة وتعليقاته المبطنة.
كما عُرف عَن الباشا  أنه يلفظ كلمة عراق بضَم العَين (عُراق)، وليس (عِراق)، وحين سُئِل عن السَبَب في لفظِه لها بهذه الطريقة أجاب "لأني لا أريد أن أكسِر عَين العراق".


هكذا كان الباشا، وهكذا كانت روحه الطَيّبة. لذا لكل صفاته هذه وأكثر مما لامَجال لذكره هنا أحب العراقيون الطيبون الباشا رغم إختلاف الكثيرين مِنهُم مَعه، ولعل هذا هو السِر في أن أحداً لم يُفكر يوماً بإغتياله رَغم قيامه بأمور كانت تُخالف أحياناً رأي عَوام الشعب، ورَغم تحريض خصومه المستمر ضدّه وقلة الحراسة عليه. فما مِن سياسي عراقي حَظيَ بحُب البغداديين وأثارت مزاياه وخِصاله أعجابهم مثل ما حَظيَ به الباشا نوري، سواء أثناء حياته أو بعد مماته، والسِر هو بَغداديته الصَميمية التي كانت تُكوّن مُقومات شخصيته وتحكم طبائعه وسَجاياه، والتي كان البغادلة ولايزالون يعتزون بها ويفتخرون بمن يبرز بها الى الصَدارة وواجهة الأحداث.

هذه الرواية منقولة عن المرحوم العقيد الركن فاضل احمد عبد العزاوي السكرتير الشخصي للباشا نوري السعيد كان الباشا نوري السعيد يشغل منصب وزير الدفاع  وفي احد الايام اقتضت الحاجة الى قاموس عربي انكليزي علما ان الباشا يجيد اللغة الانكليزية بطلاقة  فاوعز بشراء قاموس من مكتبة مكنزي في شارع الرشيد ذهب المرافق الى محاسب وزارة الدفاع  وكان في حينها كافة العاملين في الامور المالية من الموظفين المدنيين واخبر المحاسب بطلب الباشا  رد المحاسب على طلب الوزير لاتوجد تخصيصات مالية  في ميزانية الوزارة لشراء قاموس لان هذا طلب شخصي علما ان ثمن القاموس خمسة دنانير– عاد المرافق واخبر الباشا بما قاله المحاسب – رد الباشا على كلام المرافق - هذا المحاسب يستحق ترفيع درجة لانه يحافظ على المال العام - اخرج  الباشا محفظته واعطى المرافق خمسة دنانير من جيبه الخاص وقال  له اذهب للمكتبة اشتري القاموس .

في الخمسينات كان الباشا نوري السعيد رئيس للوزراء وكانت دوائر الحكومة معظمها في منطقة القشلة وكان في حينها يبقى بعد الدوام الرسمي حاكم تحقيق ( خفر ) للنظر في الدعاوي الطارئة المحالة من مراكز الشرطة  لمدينة بغداد - في ليل احد الايام زار الباشا حاكم التحقيق وطلب منه غلق التحقيق بقضية معينة وفي صباح اليوم التالي ذهب حاكم التحقيق الى مكتب وزير العدل وبيده طلب ( عريضة ) يطلب فيها الاستقالة من عمله وعند الاستفسار منه من قبل وزير العدل عن الاسباب  شرح له طلب الباشا رئيس الوزراء فكان جواب وزير العدل لا ابني مو انت تستقيل وزير العدل يجب ان يستقيل..

وقام من مكتبه وذهب الى مكتب الباشا رئيس الوزراء وقدم طلب الاستقالة وعند الاستفسار عن السبب قال الوزير انتهى  القانون في العراق اجاب الباشا خير شنو صاير وانا مااعرف اجاب الوزير لا باشا انت تذهب بالليل وتطلب من حاكم تحقيق الخفر غلق القضية الفلانية وهذا خلاف لاحكام القانون – قام الباشا نوري السعيد أعتذر من وزير العدل وذهب الى بيت حاكم التحقيق لان حاكم الخفر ياخذ استراحة في دوام اليوم التالي لخفارته واعتذر منه وقال له هكذا يجب ان يكون حكام العدل بالعراق.

عند ترسيم الحدود بين العراق وايران من قبل الانكليز في ثلاثينات القرن الماضي وضعوا في كل متر مشكلة على الحدود  بين العراق مع ايران هذا ديدن خبثهم -  في خمسينات القرن الماضي في احد الليالي فتح حرس الحدود الايراني النار على المخفر الحدودي العراقي في منطقة زين القوس في خانقين الذي بسبب نفس هذا المخفر اشتعلت نار الحرب العراقية الايرانية و كان عدد افراد الحرس في المخفر العراقي لايتجاوز عن خمس افراد تم اخبار الموقف من قبل وزارة الداخلية الى رئاسة اركان الجيش وفي صباح اليوم التالي تحرك رئيس اركان الجيش الى بعقوبة ومنها الى المنصورية وجلولاء حيث كانت معسكرات الفرقة الثالثة في حينها هناك واستصحب معه امري الوحدات ذاهبا الى منطقة خانقين وجرت العادة في وزارة الدفاع ان يلتقي الوزيرمع رئيس اركان الجيش في بداية الدوام الرسمي وفي هذا اليوم لم يشاهد الباشا نوري السعيد  رئيس اركان الجيش وعند الاستفسار من هيئة ركنه اخبروه بما حصل امس على الحدود وان رئيس اركان الجيش ذهب الى خانقين فما كان من الباشا إلا ان يستقل سيارته وينطلق باقصى سرعه لها قاصدا خانقين فوجد رئيس اركان الجيش يصدر اوامره الى امري الوحدات لغرض شن هجوم على المخفر الايراني – قال له ماذا تفعل؟؟ -  شرح رئيس اركان الجيش الى الباشا نوري السعيد ماحصل يوم امس – فقال الباشا الى امري الوحدات اركبوا عجلاتكم واذهبوا الى وحداتكم واوعز الى رئيس اركان الجيش بالركوب مع الباشا ودار بينهم حديث طويل حتى وصولهم الى بغداد واوعز الباشا باعداد برقية شرح فيها ماحدث من اعتداء على المخفر العراقي من قبل حرس الحدود الايراني وارسلت البرقية عن طريق وزارة الخارجية العراقية الى حكومة الشاه ولم تمضي 24 ساعة جاء رد الحكومة الايرانية متمثل بالشاه شخصيا بتقديم اعتذار رسمي الى الحكومة العراقية ومحاسبة الذين تسببوا في هذا الحادث من قبل الشاه شخصيا وتعهد بعدم حدوث مثل هذا الموقف مستقبلا عند ذلك استدعى الباشا رئيس اركان الجيش وقال له اقرأ البرقية وبعد قرائته للبرقية علق الباشا نوري السعيد (مشاكل الحدود ماتنحل بالحروب تنحل بالسياسة )

سنة 1958 قامت الوحدة بين سوريا ومصركانت في ذلك الوقت تجاذبات سياسية كثيرة وعند ذلك جرى الاتفاق على اقامة الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن وحضر الوفد الاردني الى العراق واختتمت المباحثات يوم 13 تموز 1958 وفي ساعة متاخرة من ليلة 13/14 تموز1958 ذهب السكرتير الشخصي المرحوم العقيد الركن فاضل احمد عبد العزاوي الى بيت نوري السعيد لغرض توقيع محضر اجتماع مباحثات الاتحاد الهاشمي من قبل الباشا نوري السعيد عند دخوله الى البيت يقول المرحوم العقيد الركن فاضل احمد عبد العزاوي وجدت الباشا يرتدي بجاما وجالس على الزولية وامامه صينية وفي الصينية ماعون كبير فيه طعام فقال لي اتفضل فاضل خوش ثريد بامية يقول المرحوم فاضل العزاوي جلست معه وتناولنا ثريد الباميا وكانت هذه اخر وجبة عشاء يتناولها بهدوء وفي صباح اليوم التالي حدثت الثورة وهرب نوري السعيد ولم ينفذ الاتحاد الهاشمي بسبب قيام الثورة وقتل نوري السعيد.


اما المشاريع التي تم بنائها من قبل مجلس الاعمار قبل الثورة  سنة 1958 تعتبر من اهم المشاريع في منطقة الشرق الاوسط الى الوقت الحاضرالتي خططت لها حكومة  الباشا رحمه الله ومنها :

أ.سد دوكان ومحطته الكهرومائية .
ب.سد ونفق دربندخان الجبلي الشهير الذي يربط طريق السليمانية من جهة كلار .
ج مشروع الثرثار ومحطة كهرباء سامراء الكهرومائية .
د. جسري الجمهورية والائمة في بغداد .
هـ.محطة قطار بغداد العالمية .
و.بناية البلاط الملكي التي سميت لاحقا القصر الجمهوري وبناية مجلس النواب التي سميت لاحقا بناية المجلس الوطني التي لم ينعقد فيها المجلس ولامرة واحدة والان فيها مقر وزارة الدفاع .

في ملفّات وزارة الماليّة وثيقة فيها من العبرة ما يدعو إلى أن نتأمّلها كلّ يوم ، لنعرف أين كنّا وكيف أصبحنا ...!
تقول الوثيقة ، أنّ الجّهات الرّقابيّة أثبتت أنّ الباشا نوري سعيد تجاوز سقف الصّرفيّات المخصّصة له خلال أحد إيفاداته ، وصرف مبلغا قدره 100 فلس خارج الضّوابط والتّعليمات ...!

ربّما كانت المئة فلس قيمة عشاء ، أو مرطّبات طلبها الباشا لأحد ضيوفه في الفندق الّذي يقيم فيه ، لكنّها بالتّأكيد لم تكن قيمة صفقة فاسدة ، أو عقد وهمي ، أو هديّة من النّوع النّادر جلبها الباشا معه لإحدى صديقاته ، أو خصّ بها مقاولا متكرّشا بينهما خصوصيّات ، ومحرّمات تحت الطّاولة أو بجانبها ..
  
يقول السيد طالب مشتاق في كتابه "أوراق أيامي عن الباشا": " كان الباشا بغدادياً بكل ما في الكلمة مِن مَعنى ودلالة. كان بغدادياً في أخلاقه وشمائله، وبغدادياً في طعامه وشرابه، وبغدادياً في وفائه لأصدقائه وفي عِشرَته ونُكتِه، وبغدادياً في ذوقه الموسيقي وولعه بالمقام العراقي".

كان معتاداً على شراء فاكهته من محل المرحوم مهدي كَنّو الملقب (إبن كَنّو) قرب تمثال الرصافي مقابل سوق الأمانة، واعتاد الناس على رؤيته بعد خروجه من مجلس الوزراء وقبل عبوره باتجاه منزله في كرادة مريم ينتقي فاكهته من إبن كنّو بلا حراسة ولا مرافقين ولا مصفحات ولا مواكب..
نوري باشا وأغاني الصباح بالإذاعة:

 هذه حكاية أخرى عن طيبة وأريحية نوري باشا السعيد رئيس الوزراء العراقي المخضرم...  تقول الحكاية كما يرويها أصحابها: أن الباشا دأب على الاستماع لبرامج الإذاعة العراقية ونشرتها الإخبارية في الصباح الباكر، وقبل تناوله الإفطار (الريوق)، وكانت قراءة الأخبار آنذاك محصورة بين الإذاعي الشهير الدروبي وموحان بن الشيخ طاغي الطائي.


وفي يوم من الأيام كان موحان هو الذي يقرأ النشرة الصباحية، ثم بثت الإذاعة أغنية (جبل التوباد حياك الحيا) في نهاية النشرة, وهي من قصائد أحمد شوقي المغناة بصوت الموسيقار محمد عبدالوهاب, وما أن سمع الباشا المقطع الأول من الأغنية، حتى تملكه الغضب، واتصل هاتفيا بالإذاعة، وطلب مديرها (محسن محمد علي)، الذي لم يكن موجوداً وقتذاك, فتحدث مع موظف في الإذاعة, وسأله: ((منو هذا اللي كان يذيع النشرة ؟؟؟))....... فقال له: انه موحان ابن الشيخ طاغي، قال: ((جيبوه أكلمه...... قولوا له رئيس الوزراء يريدك))،  فأسرع موحان إلى التلفون،  وكان مضطرباً قلقا،  ولم يكن بعد قد تناول حتى استكان شاي يبلّ به ريقه،  فالتقط السماعة، وأجاب:
((نعم سيدي))....

فجاءه صوت الباشا هادراً من الطرف الآخر: ((وِلْكُمْ وين راح ذوقكم... الناس بعدهم على ريكَهم... وانتو تدقولهم جبل التوباد؟ إتريدون أتبجوهم (تبكّوهم) من الصباحيات.... يعني ما عندكم أغنية بيها خير من الصبح.... أغنية بيها شويه فرحة بهجة ابتسامة....حتى تسمعونهم هاذي الأغنية؟)).

ثم هدأ فجأة... وتغير صوته... وقال: ((إبني موحان خلونا نسمع شي يفرحنا.. مثل اغنية: على شواطي دجلة مُر... أو خدك القيمر... أو خدري الجاي خدري... شوفولكم بستات إتوّنس الناس وتفرحهم؟))...
عندئذ اعتذر موحان بأدب جم.  فبادره رئيس الوزراء بنبرة الأب الحنون بعد أن شعر بحراجة موقف المذيع الشاب: ((إبني موحان أنت تريقت لو بعدك ؟؟)).... فأجابه: ((لا والله باشا))... فقال له الباشا: ((طيب تعال... وجيب وياك صاحبك الدروبي... تعالوا ترّيكَوا ويايه.... شيعجبكم تأكلون ؟؟)). .

وصل الاثنان (موحان والدروبي) إلى بيت الباشا... الذي كان خلف الإذاعة تماما... وما أن جلسا حتى حضر طبق البيض المقلي، وجبن الضفائر، وقيمر السدة، والكاهي، والعسل، وكانت وليمة فطور لا تنسى، جمعتهم في دار الباشا، فخرجا من البيت فرحين مسرورين، وعادا إلى عملهما في يوم مشرق من تلك الأيام البغدادية الجميلة، وقد تعلما كيف يرسما الابتسامة على وجوه المستمعين.


معطف الفرو.. وحوار بين رئيس الوزراء ومذيعة
وكتب الأخ مثنى الجبوري يروي لنا رواية عن الباشا وإحدى المذيعات الشهيرات وكالآتي:
في أحد أيام الشتاء من خمسينيات القرن الماضي وكان الجو بارداً جداً ، واثناء عبور نوري باشا السعيد رئيس الوزراء بسيارته الحكومية على جسر الاحرار حاليا ً (جسر مود سابقا)، من جانب الرصافة متجهاً نحو الصالحية بالكرخ، وفي منتصف الجسر شاهد نوري السعيد المذيعة الشهيرة صبيحة المدرس وهو يعرفها كانت تعبر الجسر مشياً على الاقدام، ففتح زجاجة السيارة الجانبية وناداها باسمها طالبا منها الصعود معه في السيارة لإيصالها للإذاعة، وجرت محاورة بين الاثنين:

قال لها رئيس الوزراء: الى أين ذاهبة؟.
أجابته: الى دار الاذاعة و(نوبتي) ستبدأ بعد قليل.
فبادرها بالقول: إن ملابسك لاتتلاءم مع الجو البارد، وألاحظ أكتفاءك بارتداء (بلوزة) فوق ملابسك فقط، وهذا لاينسجم مع طبيعة الجو البارد الذي يفترض التحسب له؟!.
عقبت على ملاحظته قائلة: (قابل عندي معطف فرو حتى ألبسه؟؟؟؟!).
فهم المغزى من تعليقها وأجابها (يامنعولة الوالدين!).
تم أيصالها الى مقر عملها بالاذاعة، ومضى رئيس الوزراء في سبيله.

وقصة موضوع (معطف الفرو) الذي أشارت إليه المذيعة، وما دار حوله من حوار بينهما.تعود الى انه كان رئيس الوزراء قد عاد من خارج العراق قبل أيام، وجلب معه (معطف فرو) لزوجة أبنه صباح، وقامت قيامة المعارضة في صحافتها على ذلك، وكأنه ارتكب (معصية) لايمكن غفرانها، لهذا كانت تلميحات المذيعة التي فهمها رئيس الوزراء، وعقب عليها أيضاً، مفهومة للطرفين. كما أشتهرت المذيعة  في الاوساط الاجتماعية بقفشاتها وهجومها المتواصل أينما وجدت على رئيس الوزراء، وهو يعرف ذلك، ولكنّ سعة صدره ودهاءه المشهود له كان لايترك أي أثر أو ضغينة على من يتحامل عليه، إذ  كان يتعامل مع تلك الظواهر بإيجابية من دون ان تترك اثرا سلبيا في دواخله أو في تعاملاته، وهذه هي الصفات المفترض توفرها في القيادات لضمان السير بسفينة البلاد الى بر الامان.

وفي اليوم التالي اتصل مدير الدعاية العام خليل ابراهيم، بمدير الاذاعة السيد مدحت الجادر، وسلمه مبلغ (خمسة وعشرين دينارا) لإيصالها الى المذيعة، هدية من رئيس الوزراء، لغرض شراء (معطف) لها.
تأمل عزيزي القارئ  لم يغضب رئيس الوزراء من المذيعة، وهي تغمز من قناته بالتعرض الى (معطف الفرو)، بل اكتفى بالرد عليها بتوجيه (اللعنة) لها على الطريقة البغدادية المحببة، ولم يحاول الانتقام منها أو مضايقتها بعملها الوظيفي وهي تهاجمه في محافلها الاجتماعية، بل عمد الى تكريمها!.  وأترك لك تصويب الموقف.
نوري السعيد..ومنولوجات عزيز علي:
 في يوم أربعاء من اربعاءات عام ١٩٥٦ استعد المنولوجيست عزيز علي لدخول اســتديو الإذاعة بالصالحية لانشاد مقال ( السفينة ) و( صلّ عالنبي ) وأثناء الانشاد فوجئ بوجود الباشا ( نوري باشا السعيد ) وراء زجاج غرفة مراقبة الاستديو ينظر إليه مع بعض موظفي الاذاعة وقد خيل له انه سيكرمه ... فأنسجم نوري مع المنولوج ... وبعد فترة ترك غرفة المراقبة وعاد بعد قليل وهو يحدق بعزيز علي ويطيل النظر نحوه وبعد لحظات دخل مهندس الاذاعة ( ناجي صالح ) واسرَّ في اذن عزيز علي ( هل تحمل معك مجموعة اشعارك لان الباشا يريد ان يراها ؟) .... فسلمه اياها وهي بخط يده وكان الباشا قد سأله (لك شنو هذا.. دَيحجي من گلبه) فأجابوه:
(لا باشا هذا هو ينظم ها الاشياء وحافظها ويقرأها على الغيب ومدير الاذاعة موافق عليها)...
فطار صواب الباشا وقال وين مدير الاذاعة فأجابوه (طلع قبل إشويه) فقال (لعد جيبولي الاشعار اللي دايگولهه هذا- يقصد عزيز علي).

بعد حين عاد المهندس ناجي ليقول له ( الباشا يريدك ) فذهب عزيز اليه وهو يجهل ماقاله للموظفين.. فقال الباشا وبشكل يوحي بعدم الرضا :
( انت إشدعوة هلكد متشائم.. وداتبجي الناس بهاذي الحجايات .... مو ييزي تتشاؤم.. ييزي مضت علينه اربعميت سنة واحنا نبچي))..
ثم اردف  سائلاً عزيز علي:
(انت شنو شغلك)؟
فقال عزيز: (باشا آني موظف بالگمرك)
فقال الباشا  (واي واي.. إجمالة موظف بالحكومة)
فقال عزيز مع نفسه  (اكلها عزيز افندي خوش تكريم راح يكرمني الباشا). !!

ثم قال الباشا شنو تقصد بـالـ (جَيْ) وشتقصد بعبارة (آخر كل علاج هَلْجَيْ) فقال عزيز مجاوباً:
( باشا انت باشا تعرف الجي)!..
فقال الباشا (إلْمَنْ إتريد الجَيْ) فأجابه ( لم اقصد ناساً معينين). وللعلم (الجي) هو كما تقول العرب (آخر الدواء الكَيْ)..

فدس الباشا المجموعة المكتوبة في جيبه، وقال للحضور:
(بسيطة....)،
ثم غادر المكان.. فخاف عزيز في حينها ... ولم ينم  تلك الليلة .... وفي اليوم التالي ذهب إلى كمرك بغداد حيث كان يعمل مُخمناً فرَنّ جرس الهاتف وحدثه الاستاذ (خليل ابراهيم) مدير الدعاية العام وقال  له (الباشا يريدك) ويبدو انه كان يظن انه شيوعي.
فذهب عزيز  بصحبة خليل إبراهيم مدير الدعاية العام إلى مقر مجلس الوزراء في القشلة واستقبلهما الباشا قائلا (إشتشربون؟)....
فاعتذر كليهما عن طلب شيء ثم قال  الباشا مخاطباً عزيز علي:
(انته يا أخي... الله ناطيك هالموهبة ... إتسفط الكلام مثل ماتريد ... فليش دة تفزز الناس واتبجيّهم ... گول البلد بخير ... وبيه رجال مخلصين يكدرون يقضون على هالعيوب والآفات.. ليش تلزم بس الجوانب السلبية وماتذكر الجوانب الايجابية؟؟)...
  ثم توقف عند كلمة في مقال (حبسونا) يقول عزيز علي  فيها (مجلسكم مجلس اشرار) وقال له:
(بالله هذا اشلون حجي؟)..
  فأجابه عزيز (انني اقصد مجلس الامن وليس مجلس الامة!!)...
  فقال نوري باشا: (ليش آني غشيم هذا الحجي مايعبر عليَّ) .
فسكت ثم اعاد اليه المجموعة وغادر نوري السعيد المكان بدون ان يصدر أي عقوبة بحق عزيز علي... لكن (خليل إبراهيم) الذي بقي في غرفة الباشا بعد خروجه ... قال خليل إبراهيم لعزيز(الباشا تأكد انت موشيوعي وصار معجب بيك هواية) !!!...

وهنا قال عزيز مخاطبا مدير عام الدعاية: (أرجوك ان تشطب اسمي من برامج الاذاعة)..
وفعلا خاف عزيز علي على نفسه كثيرا بعد هذه المقابلة الساخنة، وفعلاً لم يذهب إلى الاذاعة في الاربعاء الذي تلا الحادثة رغم اذاعة اسمه ضمن استعراض البرامج....وموعد برنامجه في ذلك اليوم لكن جريدة الاهالي زادت مخاوف عزيز علي حين هاجمت الباشا في اليوم التالي، وقالت انه ذهب إلى الاذاعة لاسكات اصوات الحق المتمثلة بالادباء والشعراء.. فأزداد عزيز خوفاً وشعر ان عدم ذهابه هو السبب في ذلك وكي لاتتطور الامور أكثر ذهب في الاسبوع التالي وانشد مقال (انعل أبو الفن لابو أبو الفن) ليندب حظه العاثر في الفن..
وبعد ثورة ١٩٥٨ تحدث المرحوم الدكتور مصطفى جواد إلى عزيز علي بأحد أسرار مقابلة له مع المرحوم نوري السعيد: (كنتُ عند نوري باشا في أحد الايام ومصادفة أدار مؤشر الاذاعة فسمع مقالك (الفـن.. أنعل أبو الفن!!!) وتابع المنولوج بكامله.... ولكنه  عندما انتهيت، قال لي: (شوف شوف هذا إبن الـكَــ.. كاعد يشتمني)!

حكايــه البــاشــا نــوري سعيــد و المخمور

الباشا نوري سعيد و المخمور



في منتصف ليلة من ليالي شتاء عام 1957 م خرج نوري السعيد باشا رئيس
وزراء العراق انذاك بمعية سائقه ومر في شارع غازي (شارع الجمهورية حاليا ً) وتوقف عند مقهى صغير لبيع الشاي
كان المكان مكتظا ًبال**ائن رغم تأخر الوقت وكان جلهم من المخمورين……
أراد صاحب المقهى ان يهتف مهللا بقدوم الباشا كعادة أكثر العراقيين عندما
يرون مسؤولا كبيرا في الدولة !! لكن وبإشارة من يد باشا لصاحب الدكان سكت صاحب المقهى…وقدم الشاي الى الباشا وسائقه بهدوء وخوف وهو يهمس…. أهلا معالي الباشا…شرفتنه بجيتك معالي الباشا .. نورتنه جنابك معالي الباشا.

فطلب الباشا نوري السعيد منه ان يسكت لئلا يثير حفيظة المخمورين
ويسلب راحتهم لا أكثر… فأنتبه أحد المخمورين ونظر الى الباشا
بأستغراب كعادة المخمورين وترنح أمامه وكان يبدو عليه ومن ملبسه انه كان
شقيا من شقاوات بغداد أنذاك ( ويا مكثرهم ذلك الحين) وسأل الباشا : انت
نوري سعيد…؟؟؟ فنهض السائق ووقف بوجه الشقي..المغوار…. وقال له: أستريح أغاتي ….أنت متوهم…
فقال الشقي: أبشرفي أتشبهه.. العفو أغاتي… وبعد لحظات قليلة
قام الشقي مرة أخرى وقد بدت عليه علامات الغضب فقال بصوت
عالي انتبه له كل المخمورين….لالالا أنت نوري سعيد….. باشا.. القندرة
ونظر الى السائق وقال له :وانت صالح جبر قيطانه … (أتفو عليكم..
وبصق بوجههم)…أراد صاحب المقهى ان يضرب المخمور الذي اساء الأدب وكذلك السائق..ولكن نوري السعيد منعهم من ذلك!!!
وبكل هدوء مد يده في جيبه وأخرج مبلغ 3 دنانير وأعطاها إلى المخمور الذي
أساء الأدب وغادر المقهى وركب سيارته بهدوء
وفي السيارة قال السائق بحنق وغضب شديدين متذمرا ً:
جناب الباشا ليش مخليتني أأدب هذا الأدب سز أبن الشارع الذي
تطاول على سيادتك؟؟ فقال له الباشا وبهدوء …أبني هذا سكران
وما عليه حرج… لو انته ضربته وجرجرناه للتوقيف ومن يسألوا اشسويت؟؟
راح ايكول :تفلت بوجه رئيس الوزراء…
ويصير هو بطل …...وآني أنفضح…بس هسه راح ايروح ايهوس
بالطرف ويصيح…تفلت على رئيس الوزراء وأنطاني ثلاث دنانير
راح ايصيحوله جذاب… سكير…ابو العرك..!!!!
وهذا ما حدث فعلا ًً…انها بديهية وحسن تصرف واستقراء الأمور

البنجرجي نوري سعيد:


كان لرجل بغدادي محل صغير لممارسة الضلاعة , يقع بالضبط مقابل  الباب النظامي لوزارة الدفاع في منطقة الباب المعظم , ولقد بالغ الرجل في وضع لافتة كبيرة اعلى واجهة محله , تحمل كلمات (البنجرجي نوري سعيد )وفي فترات كثيرة كان الباشا نوري السعيد يتولى فيها وزارة الدفاع , وبحكم وجود محل هذا البنجرجي امام بوابة الوزارة ,كانت تلك اللافتة تواجه الباشا نوري السعيد لدى ذهابه وايابه ما اثار غيظ (الباشا )حيث اوقف سيارته ذات مرة , ليتحدث الى (نوري الثاني ) متسائلا عن ضرورة وضع لافتة مبالغ بها تحمل اسم صاحب المحل المستفز (نوري سعيد ),

ولقد حار البنجرجي في جواب مناسب للباشا , اذ تفتق ذهنه عن اجابته : سيدي الباشا فدوة الك انت نوري السعيد ! واني نوري سعيد واكو فرق وموكل اصابعك سوه وموكل نوري نوري  ضحك عراب السياسة البريطانية في الشرق الاوسط وركن الدولة العراقية , ليختصر غضبه برجاء نوري سعيد (البنجرجي ) تصغير حجم اللافتة , واصدار امره لسائقه ,باجراء ملاحظة بطارية سيارته واطاراتها لدى (نوري سعيد) .

حياته السياسية
من أهم القرارات السياسية الذي كان لنوري السعيد دورا رئيسيا فيها وخلق ضجات عنيفة هو دوره في تشكيل حلف بغداد 1954 والأتحاد الهاشمي بين العراق والأردن 1958. كان نوري السعيد الدبلوماسي الأول والأكثر شهرة في العالم العربي.وكذلك ع المستوى العالمي


نوري السعيد مع الملك سعود
وصف نوري السعيد بأنه رجل الغرب في العالم العربي، ولكن كانت لديه من المواقف القومية ما يعد في حسابات اليوم منتهى الراديكالية، وكان مقتنعا بأن لابد للعراق أن يعتمد على دولة كبرى ليردع أعداه. أحد عرابي تأسيس الجامعة العربية حيث تنافس مع رئيس وزراء مصر الأسبق مصطفى النحاس على تزعم واستضافة الجامعة العربية في بغداد إلا أنها أقيمت في مصر.

املاك واموال نوري السعيد:

على الرغم من ان نوري السعيد كان يمتلك نفوذاً سياسياً قوياً لكنه لك يكن يملك عقاراً واحداً او مزرعه....
لقد بنيت لنوري السعيد (داران) الاولى كانت في الوزيرية وتقع مجاورة لدار ياسين الهاشمي والمشغولة حالياً من قبل الفنون الجميلة في شارع ابي طالب مقابل عمارة شذى والدار الثانية في كرادة مريم بالقرب من بناية القصر الجمهوري وعلى نهر دجلة اما الدار الاولى فكانت ارضها اميرية وتم تشييدها بقرض من وزارة المالية ولفائدة الاوقاف واما الدار الثانية فان الشركة التي قامت ببناء المجلس الوطني فقد تحملت نفقاتها التي اضيفت على التكاليف لبناية المجلس المذكور ايضاً.

لقد سكن نوري السعيد ولفترة طويلة في دار ولده صباح الذي كان يشغل احدى الدور العائدة لمديرية السكك في الصالحة. لقد كان نوري السعيد يعتبر نفسه الجندي والحارس لهذه البلاد والتي يرى انه من الواجب عليها تأمين مسكنه واحتياجاته الاخرى التي تتطلبها مكانته في المجتمع.

لقد تم جرد ممتلكات واموال رجال العهد المباد (العهد الملكي) وقد تم جرد ممتلكات نوري السعيد فلم يتم العثور له على اي رصيد من المال داخل العراق ولا خارجه.
كما ان نوري السعيد و إبنه صباح ورغم كل ما وقع عليهم من تنكيل إلا أن أحدا لم يجرؤ على إتهامهم  باللصوصية أو أنهم من سراق أموال الشعب .

مصرع نوري السعيد

لم يكن في دار نوري السعيد في تلك الليلة، سوى الباشا وبعض الحرس والسائق عبود والخبازة فهيمة، التي كانت تأتي عند الفجر لتشعل التنور وتعمل الخبز الطازج للفطور، وقد ظلت وفية لولي نعمتها. أطفالها كبروا ودخلوا الجامعات، لقد أحست بتحركات عسكرية مريبة وغير عادية تحوم حول القصر، جنود مدججين بالسلاح يقودهم مرافق الباشا وصفي طاهر، لعلهم يريدون إيذاء صاحب دار السيد مأمونة..؟! دخلت خلسة دون أن ينتبه اليها أحد، فأخبرت السائق عبود الذي بات في القصر ليصحب الباشا في الصباح الباكر الى المطار (لندن)، أخبرته بتحركات الجيش.

وفي تلك الأثناء، جاء رجل عسكري ودق باب الحديقة، وطلب من الحارس الدخول لمواجهة الباشا بسرعة، كان وجه القادم معروفا لدى الحراس، انه وصفي طاهر، الرجل الذي شغل منصب المرافق الخاص لنوري السعيد، والذي كان الباشا يحبه ويغدق عليه، ويرسل له من شرابه الخاص صندوقا بعد آخر، وهو من الضباط الأحرار والذي كلف بأقتحام القصر واصطياد الباشا.

أيقظ وصفي الباشا، وأخبره بما يجري، وبأن عبد الكريم قاسم يقود الانقلاب بأسم الضباط الأحرار.

تقول الدكتورة عصمت السعيد في كتابها "نوري السعيد رجل الدولة والأنسان" وهي مصرية وزوجة صباح نوري السعيد "مهندس وطيار مدني"، حيث قتل قرب دار الإذاعة العراقية بعد ان خرج من وكره في دار يعود للآثوريين، ليطالب بجثة والده، فقتل رميا بالرصاص. وقد أنجبت من صباح، فلاح وعصام، الأول صار طيارا عسكريا خاصا لجلالة ملك الأردن الراحل "الحسين"، وقتل في حادث اصطدام. أما عصام فقد تخرج من جامعة كمبرج مهندسا معماريا وفنانا، ومات في لندن، وقد حرم من الحصول على الجنسية العراقية ليعود الى العراق.
تقول الدكتورة عصمت بأن وصفي طاهر قام بهذه الحركة المسرحية في اخبار الباشا، فحتى اذا فشلت الحركة فسيكون من المخلصين !!!.
الى أين المفر يا باشا؟ وفي ارتباك وعجلة من أمره، وضع صاحب دار السيد مأمونة، وكيف تكون مأمونة بدون قوة عسكرية؟ وضع على كتفه معطف النوم، كما دس في جيوب البيجاما مسدسين، وهرع مسرعا الى ساحل الحديقة، نحو نهر دجلة، هذا النهر الخالد، الذي كان الشاهد الوحيد في الكثير من الأحداث التاريخية الكبرى!
ووجد الصياد عبود بقاربه وهو يصطاد السمك، وما كان هذا الصياد الوفي والذي كان الباشا يرسل له ولأصحابه الأطعمة في كل يوم تقريبا، يعلم بأن الصيد الثمين في ذلك الصباح كان الباشا نفسه. فكر الباشا بالرد على المحاولة بالتعاون مع وفيق عارف بالوصول الى وزارة الدفاع، وقيادة العمليات من هناك، لقد رأوا نيرانا في سماء بغداد، ولكن الصياد رغم ارتباكه طلب من نوري السعيد بأن يلملم جثته الضخمة، ليرقد في قاع القارب، ثم أسدل عليه شباك الصيد، فيما أحتل قصر الباشا بالكامل، وسالت دماء الببغاء الأليفة، والكلب المدلل على سلم باب المنزل. الجدير بالذكر، ان هذا البلام الشجاع رفض اعطاء المعلومات للمحققين لقاء حصوله على الجائزة معللا ذلك بأنه شارك الباشا (الملح والزاد).
اختبأ نوري السعيد في دار الدكتور صالح البصام، فيما كانت اذاعة بغداد تعلن عن جائزة مقدارها عشرة آلاف دينار لمن يعثر عليه، فقرر نوري السعيد أن يجلس متخفيا بين سيدتين في المقعد الخلفي لسيارة صادق البصام متوجها صوب الكاظمية، وبقي في تلك الليلة في دار عميد البصام، وكان مرهقا ومحموما والعرق يتصبب من جبينه، وبيده راديو ترانسستر لمتابعة الأخبار، فسمع بمصرع الأمير عبد الإله ومجزرة قصر الرحاب، وكان لا يزال يعول على التدخل الخارجي العربي والدولي ودول حلف بغداد ودولة الاتحاد الهاشمي. وهنا حامت الشبهات حول دار البصام.
ضاقت الأقدار من طوق النجاة لهذا الرجل الذي اتكأ في رسم سياسته الخارجية على بريطانيا العظمى. مرة قال له الرئيس اللبناني كميل شمعون وهو يمازحه .. :
عندي اقتراح ياباشا، نعمل تبادل بشري، حيث أعطي لك قسما من الفلسطينيين وقسما من شيعة لبنان مقابل المسيحيين العراقيين..

حيث حصلت هذه المقابلة في القصر الأبيض في بغداد. هزأ الباشا وغضب وقال للرئيس اللبناني:
كنت أتصور انك عاقل.. كيف أعطي لك الورود الفياحة وهي تجمل العراق، وتعطيني بدلهم أشواك مؤذية؟

ترك نوري دار البصام مرتديا عباءة سوداء وكوفية بين سيدتين متحجبتين. طرق نوري دار الحاج محمود الأستربادي، فتحت الباب السيدة أم عبد الأمير زوجة الحاج، وحضنته من شدة التعب والأعياء. أكرمته وقدمت له الطعام، وبات هناك يوما آخر. لكن الدار طوق بالمقاومة الشعبية، فقرر نوري الهرب عن طريق الشيخ محمد العريبي، وفكر في الدخول الى السفارة الأمريكية القديمة، فوجدها مطوقة بالمقاومة الشعبية، فقرر أن يبيت في دار هاشم جعفر زوج أبنة محمود الأستربادي في البتاويين.

يبدو ان السيد هاشم امتعض لوجود نوري السعيد في الدار، عندئذ سألت أم عبد الأمير عن دار محمد العريبي في البتاويين.
أحس السعيد بحركة مريبة، وبأن باب الدار فتحت وأقفلت بسرعة، وكان الخارج هو عمر وكان يطمع بالجائزة. غير ان الباشا عرف كل شيء، وخرج مسرعا الى الشارع حيث لحقت به أم عبد الأمير وخادمتها وهن يقلن:

الى أين ياباشا .. الى أين؟
فأجاب وهو يلهث ووضعه يرثى له:

أين بيت العريبي؟ ذهب الثلاثة للبحث عن دار العريبي في أطراف الحي دون دليل، توقفوا برهة أمام العطار محمود قنبجة وسألوه عن دار العريبي، فيما كان عمر بن هاشم وأخته قد وصلوا الى بقال قريب وتلفنوا الى دار الاذاعة بأن نوري السعيد في دارهم طمعا في الجائزة.

ويروى والعهدة على الراوي، بأن نوري دق أبواب عدد من العوائل المسيحية لأيوائه، فقالوا نخاف ياباشا، نخاف من ايوائك في منازلنا، ولا نريد الجائزة، وقلبنا معك.

ويقال أيضا ان نوري السعيد كان يحمل معه (بقجة) أو حقيبة فيها نقود كثيرة أعطاها لعائلة مسيحية قبل ان يقرر الانتحار. ذاع خبر وجود الباشا في البتاويين، ووصلت شاحنة فيها شرطة وجنود، وأرسل الزعيم عبد الكريم قاسم مرافقه وصفي طاهر للبحث عن نوري وجلبه حيا، وعلل ذلك بأن نوري السعيد يحمل معه كنزا من المعلومات الثمينة المفيدة، ولعل قاسم بنزعته الأنسانية المعروفة (عفا الله عما سلف) كان يريد الأبقاء عليه حيا حتى تهدأ النفوس ليرسله يعيش في لندن.

أيقن الباشا بأن ليس هنالك أي أمل بالنجاة أو الفرار، فطلب وهو على حاله البائس هذا، وبالحاح، أن يترك لوحده، فهربت الخادمة، ولكن أم عبد الأمير ظلت ثابتة رابطة الجأش، على أمل بأن وصفي ربما يحمي الباشا بشكل ما.

ويبدو ان السعيد سمع بأخبار مجزرة قصر الرحاب والسحل، فأخرج مسدسه من جعبته وأفرغ ما فيه في صدره أو قلبه المكلوم. وعندما وصل وصفي كان الباشا المغدور على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو الذي خدم العراق أربعين سنة آمنة. فصاحت به أم عبد الأمير مستنجدة بصوتها الجهوري :

هذا باشتنا يا وصفي، هذا أبوك وأبو الكل، انقذوه!

كان صوتها خشنا مرعبا فظن وصفي انها رجل متنكر، فقضى عليها رأسا برصاصات غادرة فكانت بحق شهيدة الوفاء. لما أحس وصفي بأن أنفاس السعيد لم تتوقف تماما، أطلق الرصاص على جثته التي كانت على آخر رمق من الحياة، وقد خالف وصية الزعيم قاسم بأرسال السعيد حيا الى وزارة الدفاع... ولقب فيما بعد بقاتل السبع الميت.

قبض أولاد السيد هاشم الجائزة نقداً، وأخذ وصفي الجثة الى وزارة الدفاع، وأمر الزعيم بدفنها حسب الأصول. لكن القبر وكعادة العربان نبش في نفس الليلة، وأخذت جثته تسحل في شوارع بغداد، ووصلت الى الوزيرية في الميدان أمر قائد الشرطة طاهر يحيى "مدير شرطة العراق" بسحق الجثة بدبابة قبل اشعالها، ولكن عندما ضغطت العجلات على القسم الأسفل من الجثة انتصب القسم الأعلى بشكل عجيب، ففزع السائق ووقع مغشيا عليه من فوق الدبابة.


أشعلت جثة نوري السعيد وسط الأهازيج والزغاريد والتصفيق بحياة الثورة. ووضعت بقايا الجثة على جسر الوثبة تحت عجلات السيارات، لكن أحد المارة جمع ما تبقى من عظام الجمجمة ووضعها في كيس وحملها الى الكاظمية، رغم ان السعيد كان عراقيا سنيا من عائلة قرغول المعروفة. ودفنت الى جانب مقبرة حسين السيد يونس، ويقال ان السيد عبد الهادي الچلبي، والد أحمد الچلبي، هو الذي رتب مراسيم الدفن والتكاليف.



2 التعليقات:

  1. السيد سركوت المحترم
    تحية طيبة
    هل من الممكن أعلامنا حول المصادر التي أتيت منها بهذه المعلومات ؟ الرجاء ذكر هذه المصادر بالتفصيل وخصوصا حول مواضيع تصرفات " الباشا " وأحاديثه والحوارات التي تبدوا وكأنها مأخوذه من تسجيلات صوتية أو سيناريو فلم ، أو أن مصادرك كانت حاضرة لهذه الحوارات وتقوم بتسجيل كل كلمة !!
    لمعلوماتك فقط ، أنا باحث في تاريخ العراق المعاصر ( منذ سقوط الدوله العثمانية ولغاية الوقت الحاضر ) وخصوصا لفترة العهد الملكي الذي عاصرت جزءا منه وكانت عائلتي جزء فاعل من هذا التاريخ لهذا العهد ، فأنا لم اسمع أو أقرأ أو أعلم بمثل هذه المعلومات ، ولذلك فأنا أتمنى وللأمانه العلميةوالتاريخية والأخلاقية أن تزودنا بمصادرك التي أستقيت منها هذه المعلومات الجديدة . وخصوصا أحاديث المذيعه والسكارى والبنجرجي والمذيعين والأكلات التي كان يعشقها " الباشا " و حادثة مقتل الباشا وجولته في البتاويين .. لأني لم اسمع بهذه الأحاديث وليست مذكورة في أي كتاب أو مقاله .
    أرجو الأجابة على نفس الموقع رجاء أحقاقا للحق .
    وألا فسيكون كلامك هذا لاصحة له .
    مع الشكر
    مع الشكر

    ردحذف
  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. بدءا ابارك جهودكم وجهود كل الذين يكتبون عن تاريخ العراق الحديث . ملاحظة عندي هي الدقة والتحري عن المعلومات المستقاة لان في ذلك اثر كبير على المعلومة وتداولها وخاصة بوقتنا الحاضر وتطور اساليب الاتصال والنشر وجهل الكثيرين ونقلهم الاخبار دون التحقق منها .. .. فمثلا ما نقل عن المرافق المرحوم احمد فاضل العزاوي .. لا اجد فيه شيء من الحقيقة .. الاتحاد الهاشمي سبق وان اعلن في 14 / شباط / 1958 وراس الاتحاد جلالة الملك فيصل الثاني ملك العراق وراس حكومة الاتحاد فخامة نوري باشا السعيد .. اما الحكومة العراقية فكان يرأسها المرحوم احمد مختار بابان وليس كما ورد في المقاله اعلاه .. اتمنى كما ذكر الاخ فهمي سعيد في تعليقة .. اتمنى ان تزودنا بالمصادر للتحقق من المعلومات لما فيه من فائدة للجميع .. فائق تحياتي واحترامي

    ردحذف

 
Fox Egypt News Magazine 2014 © جميع الحقوق محفوظة © تصميم الموقع : مجدي البروفسير