خليل كلفــت...تـوكفيـــــل(1)
بقلم / هبة عبد العزيز

كنا قد ختمنا مقالنا الأسبوع الماضى بتلك الكلمات: (خليل كلفت رواية أبداع عبقرية لا تنتهى ....) وإستكمالا منا لما بدأناها, سنواصل الحديث فى مقالنا لهذا الأسبوع أيضا عن هذا المثقف الموسوعى الراحل عنا منذ أيام قليلة, والذى ترك لنا إرث ثقافى يجب أن تسلط عليه الأضواء , ويحتفى به فى الأوساط  الثقافية و السياسية, حتى يتثنى الأستفادة مما خلفه لنا من ترجمات وآراء فى السياسة, الأدب, وعلوم اللغة, ف" كلفت"رحلة بحث تنويرية  بداية من معرفة الآخر وصولا الى معرفة الذات. فقد آمن إيمانا مطلقا بحق المصريين فى الحق والخير والجمال, وعبر عن ذلك فى إنتاجه الثقافى المميز على مدى مراحل حياته, الأمر الذى عرضه أحيانا للصدام مع السلطة ودخول المعتقلات. فقد أخد كل عمل قام به على محمل الجدية, فأخرج لنا أبداع حقيقى.

وأستأذنك قارىء العزير أن تسمح لى بأن أترك الورقة والقلم, ومن قبلهما الفكر والرأى لكاتبنا "كلفت" كى يسطر لنا باقى محتوى هذا المقال, ويضطلعنا على بعض من إبداعه وبخاصة السياسى خلال رحلته الغنية  بالجدية والجهد والوعى ....

ففى عام 2010 م أصدر ترجمته لكتاب (النظام القديم والثورة الفرنسية) لمؤلفه "أليكسى دو توكفيل", وأليكسى (1805-1859م) كان وزير خارجية فرنسا وعمل فترة كسفير لها لدى أمريكا, ويعد من أبرز كبار مثقفى وساسة  فرنسا, وعن هذا الكتاب يروى "كلفت" أنه فى البداية تحمس بشكل شخصى لقراءته  وترجمته إلى العربية حتى يتسنى الأستفادة منه فى العالم العربى, وإيمانا منه ايضا بأفكار "توكفيل", والذى قد قرأ له  قبل ذلك عدة كتب كان من أهمها كتاب كبير، ضخم الحجم، عظيم المحتوى هو (عن الديموقراطية فى أمريكا), كذلك كانت ترجمة كتاب "توكفيل" محاولة من"كلفت" للتعرف على الثورة الفرنسية ومراحل تطورها بشكل أكثر تفصيلا فى سياقها التاريخى, إلا أنه إكتشف بعد قراءته وإستيعابه للكتاب , أنه ليس مجرد تأريخ للثورة الفرنسية وحسب, بل أنه دراسة متعمقة, و بلورة واضحة للثورة الفرنسية تحديدا ومفهوم الثورة بشكل عام , وكانت تلك مفاجأة سارة جدا بالنسبة ل "كلفت"، حيث أشبعت فيه روح الشغف للنقل و النهل  من مناهل المعارف والأفكار  الغير متدوالة على الساحة فى مجتمعاتنا بالشكل الكافى، مما  يؤهل لإستخدامها والقياس عليها أو تطبيقها على واقعنا المعاش. فقد إستوعب كاتبنا فكرة "توكفيل" عن الثورة, وأوضح ذلك فى مقدمته عن الكتاب, حيث شرح فكرة أن الثورة ثورتان ووصفها بالمجنحة، فالثورة الفرنسية ساعدت على الإنتقال بالمجتمع  من الإقطاع إلى الرأسمالية, لكن النظام الاقتصادى قبل الثورة لم يكن إقطاعيا فى مجمله, ففى ظل النظام الملكى القديم نمت الرأسمالية و تطورت الصناعة والملكية الزراعية , ونشأت سوق رأسمالية, وبالتالى أصبحت الملكية المطلقة عبأ يكبل الرأسمالية الوليدة, كذلك أمور كنفوذ الارستقراطية، وإقطاع الكنيسة باتت غير مقبولة, و من هنا برزت فكرة "توكفيل" الأساسية أن الثورة  (ثورتان) ثورة  أجتماعية وآخرى سياسية, وأن النظام القديم هو الثورة الحقيقية, ولو لم تحدث ثورة 1789 م السياسية على النظام القديم فى فرنسا (النظام الاقطاعى بشقيه السياسى والاقتصادى) لكانت الثورة (النظام القديم الذى أخد فى التطور) ستواصل رسالتها التاريخية حتى تصل الى أهدافها فى النهاية!

فالثورة الإجتماعية تمتد لسنوات طويلة فى صورة تحولات إجتماعية, أما الثورة السياسية فتأتى لتغيير النظام السياسى و الأتيان بنمط جديد للحكم يفتح الباب لحلول طبقة جديدة إنتصرت  فى الثورة الاجتماعية لتحل محل الطبقة المنهزمة, هكذا كان الصراع بين الطبقة الرأسمالية و الطبقة الاقطاعية فى النموذج الفرنسي, و بحيث يصبح الماضى المباشر قبل الثورة السياسية هو المستقبل بعد تلك الثورة.


 ويالها من فكرة هامة جدا شديدة العمق, وغياب مثل هذه الفكرة (التوكفيلية) عن أذهان كتابنا ومحللينا السياسيين عندما يكتبون عن الثورات الراهنة وأخص ما يسمى "بثورات الربيع العربى",أمر فى منتهى الخطورة, حيث يؤثر على مدى فهمهم لمثل هذه الثورات وتناول ومناقشة الاهداف و النتائج و جميع القضايا المتعلقة بقيام الثورة. هذا من جانب, ومن جانب آخر فأنما يبرز لنا هذا التحليل الدقيق  ل "كلفت" مدى حجمه كمفكر ومثقف ومحلل سياسى, يمتلك ادوات اللغة والثقافة،  فهو ليس مجرد مترجم وكفى, حيث تشعر وأنت تقرأ لأي من ترجماته, أنك أمام كتاب أصلى وليس بشىء مترجم على الأطلاق , بداية من سلاسة اللغة و المفرادات, مرورا بترابط الجمل فى السياق و قوة التعبير, ووصولا الى أصابة الافكار بمنتهى الدقة والوضوح والحرفية التى ليس لها مثيل, مع الصياغة بأسلوب أدبى راقى, فالمترجم المبدع تصبح ترجمته أبداعا ممتعا, بفضل ثقافته, فى حين تكون ترجمة المترجم العادى ضعيفة وغير دقيقة , و بكل آسف كثيرا ما تتساهل دور النشر فيما يتعلق بنوعية الترجمة, فقد صادافتنا العديد من الكتب الركيكة الترجمة, والتى لا تخرج منها بشىء سوى الملل وأضاعة الوقت وبذل جهد مضاعف لمحاولة ربط الجمل لفهم الموضوع.

ودعونا نعود مجددا لكتاب "توكفيل" المترجم، حيث أوضح لنا "كلفت" أيضا أنه وفى هذا النموذج  قد ظهرت العديد من السلبيات( وبالاخص الممارسات الديكتاتورية) بعد الثورة، فالثورة الفرنسية كانت قد مهدت الطريق الى اكتمال الرأسمالية الصناعية، وبالتالى ظهرت طبقة جديدة، هذه الطبقة إزداد نفوذها بعد الثورة، ومارست بعض الأساليب الديكتاتورية، هذا من ناحية ومن ناحية آخرى إندفع بعض القادة الثوريين إلى الرغبة فى التغيير بأقصى سرعة، مما قاد أيضا لممارسة أساليب الديكتاتورية، كما حدث فى عهد الارهاب، إضافة لممارسات الثورة المضادة.الا أن النضال بقى مستمرا، ﻹستكمال تحقيق الديموقراطية أو (الديموقراطية من أسفل) من خلال إنشاء النقابات والدفاع عن العديد من الحقوق الاخرى لتكون كلها أدوات فى يد الطبقة الشعبية التى تمثل القوى الحية فى المجتمع للدفاع عن حقوقها، وتلك صورة من صور الثورات الاجتماعية طويلة الاجل.


ومازال للحديث بقية.....

1 التعليقات:

 
Fox Egypt News Magazine 2014 © جميع الحقوق محفوظة © تصميم الموقع : مجدي البروفسير